إن المتتبع للخطاب السياسي للإسلاميين سيلاحظ ربطاً غريباً بين شح المطر وبخل السماء بمائها وبين انتشار السفور ونزع الحجاب وسياقة المرأة للسيارة، ولكأن ممارسة الحرية الفردية جريمة تستجلب قسوة السماء السحاء بحبس مائها وتجويع الناس والبهائم على حد سواء. ما كل هذه القوة الخارقة لقرار النساء التمتع بحرياتهم الفردية في ظل مجتمعات ترنو إلى الحداثة والعدالة والتقدم؟ فتخلي المرأة، حسب زعم هؤلاء، عن لباس يعتقدونه شرعياً أو استفادة الناس من مظاهر الحياة العصرية هي سبب شح الأمطار وكل الأذى الذي يلحق بمجتمعاتهم. لو صدقنا هذا الخطاب، فنتيجته ستكون وجوب تجريم كل أشكال الحرية ومحاولات الانخراط في الحداثة، رغم كل النقائص التي تعاني منها المجتمعات العربية، لعل السماء ترضى وتجود بمائها القرقار. هذا الربط التبسيطي، من قبل من يعتبرون أنفسهم حماة الهيكل وحملة الرسالة، لظواهر الطبيعة وتغيرات المناخ بخروج الناس عن الدين لا ينبئ بضيق الافق فحسب، بل يؤكد أن الخطاب الديني بحاجة إلى تثوير حقيقي يعيد استنطاق مسلماته وتفكيك بنيات خطابه وإعادة صياغتها وتفسيرها بمنطق يتماشى مع منطق الحرية المطلقة للعقل البشري في التفكير والبحث وممارسة الحرية الفردية كجزء لا يتجزأ عن الوجود الانساني على هذه الأرض. وهنا بالضبط مكمن الداء، فالخطاب الديني لا يستطيع السيطرة على مجتمعات تتمتع بفضيلة الفكر والتفكر والقدرة على اتخاذ القرار. التفكير الحر كان له دائما ثمن والمجتمعات العربية الإسلامية، خاصة تلك التي تخلصت من أنظمة القمع، يجب أن تكون مستعدة لدفعه لتتخلص من سيطرة طبقة إكليروسية باسم الدين على المجتمع والدولة، وفرض مقولة أن الدين الذي يحث على "السياحة في الأرض" يمكن أيضا أن يعاد تفسيره ليستجيب لحاجة الناس للسياحة في ملكوت الحرية الفردية والجماعية والحق في الاختيار.
ندرك أن ممارسة التفكير تخلخل البنى المفاهيمية التي تتأسس عليها سلطة الخطاب والتفكير الدينيين. لكن هذه الممارسة محفوفة بالمخاطر ولم تكن أبداً مهمة سهلة. لقد دفع الكثيرون حياتهم ثمناً لذلك، ولنا في حياة ابن رشد خير دليل على هذا القول. لقد قدم عبد الفتاح كيليطو تصويراً بديعاً لما يمكن توصيفه برحلة الحرية الفكرية من العالم الإسلامي إلى العالم الغربي من خلال رحلة بقايا جثمان ابن رشد، بعد دفنه بثلاثة أشهر، من مدينة مراكش بالمغرب الاقصى إلى قرطبة/الاندلس. فابن رشد ارتكب خطيئة كبرى استحق عليها النبذ والعزل والنفي إلى بلدة اليسانة الصغيرة في الاندلس. التهمة الثابتة عليه هي تهمة الفكر (التفلسف) في ظل مجتمع محافظ لا يؤمن بالفلسفة التي كانت في ذلك الوقت إحدى تمظهرات الحداثة في أروع تجلياتها. حداثة هددت حماة الهيكل ومحتكري المقدس فأبوا إلا أن يعاقبوا صاحبها. تهمة لم يشفع له سنه، وكان في العقد السابع، ولا الدين الاسلامي الذي كان يدين به، في أن يتجنب عقوبتها القاسية. إنها تهمة الخوض في شؤون، ربما بلغة عصرنا، تؤدي إلى زعزعة الاستقرار وأمن الدولة، وبالتالي تم اتخاذ قرار ليس فقط بإيغار صدر السلطان الموحدي ضده ولكن أيضا باتهامه بالزندقة والخروج عن الملة مما استتبع حرق كتبه كمقدمة لحرق أفكاره وإزالتها من الوجود. وليس هذا بغريب أيضاً عن أفكار الكثير من الإسلاميين في عصرنا الذين اضطهدوا نصر حامد أبي زيد في مصر والأستاذ محمد محمود طه في السودان، على سبيل المثال لا الحصر.
لم يكف أعداء الفكر موت ابن رشد وإحراق كتبه ليستريحوا من التهديد الذي يشكله تنوُّر فكره عليهم بل إنهم استجابوا لرغبته بتنفيذ "وصيته" بإبعاد جثمانه إلى قرطبة كما يُبْعَدُ الطاعون حتى لا تصيب العدوى أناساً آخرين من المؤمنين الذين يطيعون دون أن يكلفوا أنفسهم عناء مساءلة الأمور وعدم الأخذ بظواهرها فقط. أخرجت جثته من القبر وحملت في سلة (”شْواري“ بلغة المغاربة) على ظهر جمل إلى قرطبة/الاندلس. من جهة كان هناك تابوت يحوي بقايا عظام المفكر/الفيلسوف/المجرم الذي بعث من قبره (تنفيذاً لوصيته كما يُقال) ليعذب على جناية اقترفها في حياته بهذا السفر المضني إلى الشمال، وتوازيه في الجهة المقابلة كتبه الفلسفية/جريمته/ فكره/سبب مأساته (لم يوص بأن تحمل معه أسفاره) التي ربما عجلت بإعادة بعث جثمانه للحياة. لكوني من المغرب أتساءل دائماً إذا كان ممكناً موازنة تابوته على ظهر الدابة بالحجارة كما هو معمول به إلى اليوم، ولكن أعود وأقنع نفسي بأن هذه "اللو" لا مجال لها في التاريخ. هناك حكمة في كل شيء. هذه الرحلة "البعثية" ستصبح، ويا لمكر الصدف!، مصدر حياته الثانية التي استمر بفضلها يرتقي في معارج الكمال الفلسفي، يلهم العقول وأهل الفكر إلى اليوم في الغرب قروناً قبل أن يرتد صداه إلى الشرق. فالذي قرر تنفيذ "وصية" ابن رشد كان حريصاً على إرسال ما تبقى من وديعته الأخيرة معه إلى قبره أو منفاه الاندلسي لينتهي الشر الذي تحمله في طياتها، إلا أن العكس هو الذي حدث.
وابن عربي، الحاضر يوم انتشال بقاياه من القبر بمراكش، باستشراف المتصوف أنشد متسائلا:
هذا الإمام وهذه أعمـالــه يا ليت شعري، هل أتت آماله؟
الصورة بديعة في الحقيقة، هذا الإمام وهذه أعماله، الإمام وأعماله متساويان، خلقا توازناً على ظهر دابة بين الفيلسوف/المترجم/الانسان من جهة ومؤلفاته/تآليفه من جهة ثانية. ربما يريد ابن عربي القول بأن كل إنسان يساوي، في الآخر، قدر ما أنتجه من عمل. انظروا إلى ابن رشد: لقد أنتج في حياته أعمالاً تساوي وزن جسده مضافاً إلى التابوت. السؤال الانكاري مثير للإهتمام أيضاً: يا ليت شعري، هل أتت آماله؟ بطبيعة الحال لا ينتظر ابن عربي إجابة عن هذا السؤال لأن ابن رشد توفي ولايمكن أن يجيب. ثانياً، الآمال لا تتكلم ولا يمكنها الإجابة هي الأخرى. إلا أن السؤال يفترض، ربما، تأكيداً على أن ابن رشد مات وفي جعبته الكثير مما يريد تحقيقه. غير أننا في نفس الوقت، يمكن أن نقرأ في هذا البيت الشعري نوعاً من الرجاء في أن تكون آمال ابن رشد قد تحققت عن طريق أناس آخرين يستلهمون روحه وهذا الذي حث فعلاً لأن أعماله ألهمت النهضة الاوروبية وشكلت القنطرة التي انتقلت الفلسفة الارسطية بواسطتها إلى أوروبا.
هذه الحياة الثانية لابن رشد اِجْتُرِحَتْ من براثن الموت الفكري الذي أريد لصاحبه بعد الموت العضوي. فالذين هندسوا "الرحلة الشمالية" لبقاياه أرسلوه إلى بلاد بعيدة ليستريحوا من التحديات التي فرضها عليهم فكره المحفوظ في مؤلفاته التي كان وزن ما بقي منها، بعد الإتلاف والحرق، يعادل وزن تابوته. كما يقول المثل العربي "رب ضارة نافعة"، فبدلاً من أن تصير عظام ابن رشد رميماً في أرض حكمت على نفسها بالجهل ولا ترفع من قيمة أهل الفلسفة، صارت ذبالاً في تربة خصيبة للفكر وألهمت الكثيرين ومنحت صاحبها حياة أخرى. لنتصور ما كان سيحدث لإرثه لولا ذلك الحقد الدفين من الذين اتهموه بالزندقة وأخرجوه من الثرى المغربي ليمنحوه فرصة أخصب لتسافر أفكاره في دنيا الله الفسيحة، وبدلاً من أن تكون له حياة واحدة، مُنِحَ حيوات، إن جاز التعبير. حياة ابن رشد ومحنه، وبعده محن كثير من المفكرين العرب المسلمين، تقدم صورة دقيقة عن الصراع الأزلي بين سلطة الدين وسلطة الفكر. عندما تفشل سلطة الدين في مقارعة سلطة الفكر تلجأ إلى معاقبة من يتمردون عليها بفكرهم، تارة بتهمة الزندقة، وتارة أخرى بتهمة الفتنة وغيرها من المقولات التي تمادت السلطة الدينية الرسمية والأنظمة الديكتاتورية في فرضها على الشعوب العربية الإسلامية من المحيط إلى الخليج. فاحتكار سلطة التفكير من قبل من سماهم ابن رشد بأهل الجدل وترسيخهم كسلطة واحدة ووحيدة تفكر للجميع كان من نتائجها إضعاف سلطة المجتمع وسلب إرادة الناس.
فالربط المقصود اليوم بين شح الامطار وممارسة الناس لحرياتهم وحقهم في التنعم بالحياة الارضية كما يرتضونها في الخطاب الإسلامي ما هو إلا انعكاس لشح على مستوى الأفكار تعانيه هذه التيارات لأنها لا تستطيع أن تنتج مشروعاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً بديلاً لما هو موجود، أو لأنها بعد قرون من محاربة كل من أعمل هذه الملكة أسست لنفسها تراثاً تعود إليه لتستنجد به كلما وجدت نفسها في مأزق سياسي على غرار ما نشاهده اليوم. ففي الوقت الذي يطرح الناس أسئلة ملحة عن التشغيل والاقتصاد وإنهاء عقوبة الإعدام وإعادة قراءة التراث الديني قراءة عصرية تستلهم أدواتها من قراءات متنورة، وهي كثيرة وتصلح لكي تكون منطلقاً، يأتي من يتسلق أسطح الجامعات، منارات العلم والرقي الإنساني، ليثبت عليها راية الخلافة. وهناك من يخطب في الناس داعياً إلى عودة الجواري وملك اليمين في شبه انسلاخ عن الزمن الذي يعيشه. فأن يفتتح رئيس وزراء اجتماعاً حكومياً بالحديث عن سقوط المطر مظهر من مظاهر هذه الثقافة اللاعقلانية التي أريد لها أن تسود ولكأن السماء جادت بالأمطار لأن الحزب الذي فاز بالانتخابات حزب إسلامي.
ختاماً نقول إن تهجير ابن رشد من المغرب إلى الاندلس ما هو إلا مقدمة لهجرات أكثر إيلاماً وأكثر فتكاً بالمجتمعات العربية والاسلامية على مر القرون. كما أنه يعتبر، على ضوء ما نشهده في الوقت الراهن، دليلاً على أن الخطاب الديني لم يتطور بما فيه الكفاية رغم مرور أكثر من عشرة قرون على الرحلة الرشدية إلى الشمال. أحياناً يتساءل المرء كيف كان يمكن أن يصير حالنا كعرب وكمسلمين لو تم احتضان فكر ابن رشد وغيره ممن قالوا بأولوية العقل على التقليد وكيف يمكن أن نؤسس لحداثتنا بناء على ذلك. فما نشاهده اليوم في العالم العربي من صعود للخطاب الديني، في عز الزخم الثوري، يشكل نكسة كبيرة لكل من أمل في أن تتحرر هذه المجتمعات من سلطة بشرية تحكم باسم الدين. عندما نرى جحافل الناس تتظاهر حاملة أعلاماً سوداء للمطالبة بتكريس الشريعة كمصدر للتشريع في بلدان ثارت على الديكتاتورية وعندما يقضي علماء الدين أوقاتهم في إصدار فتاوي متخصصة في كل ما هو غريب من إرضاع الكبير إلى معاشرة جثت الموتى، يتساءل المرء، ألا ينم هذا عن فقر فكري واضطراب في فهم أولويات المجتمع؟ ألا يحق للفئات المتهمة بأنها سبب شح المطر أن تتساءل إن كان شح الامطار وبخل السماء بمائها هو بالضبط بسبب هؤلاء الناس الذين فرضوا سلطتهم على رقاب العباد وزينوا الظلم والاستبداد بل ووضعوا أيديهم في أياديه ووفروا له الغطاء الديني اللازم لكي ينجح في مهمته.
فمع نجاح انتفاضات أو ثورات الشعوب العربية في تفكيك بنية الطغيان ومع ما يتردد عن ثورة مضادة تقودها أنظمة استحكمت فيها الطبقة الاكليروسية صار من اللازم تثوير الخطاب الديني نفسه ليستوعب التغيرات التي تشهدها المجتمعات. فألق الشعوب العربية الإسلامية لا يمكن أن يبرز إلا بالانتفاضة الفكرية ضد طبقة خطفت الخطاب الديني واحتكرته لنفسها. فنفس الطبقة التي أحرقت كتب ابن رشد هي التي تسعى بكل الوسائل إلى إبطال مفعول الثورة في العالم العربي باختطافها باسم الدين. هذه الطبقة تخشى من وقوع الثورة الفكرية التي ستكون مقدمة زوالها.